تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 69 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 69

69 : تفسير الصفحة رقم 69 من القرآن الكريم

** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ * بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيَ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين, فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والاَخرة, ولهذا قال تعالى: {إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} ثم أمرهم بطاعته وموالاته والإستعانة به والتوكل عليه, فقال تعالى: {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين} ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم, مع ما ادخره لهم في الدار الاَخرة من العذاب والنكال, فقال {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فضلني ربي على الأنبياء ـ أو قال على الأمم ـ بأربع: قال: أرسلت إلى الناس كافة, وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره, ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي, وأحلت لي الغنائم». ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة, عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به, وقال: حسن صحيح. وقال سعيد بن منصور: أنبأنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «نصرت بالرعب على العدو», ورواه مسلم من حديث ابن وهب. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق, عن أبي بردة, عن أبيه أبي موسى, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود, وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي, ونصرت بالرعب شهراً, وأعطيت الشفاعة, وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً» تفرد به أحمد. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً, وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب» رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} قال ابن عباس: وعدهم الله النصر, وقد يستدل بهذه الاَية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} أن ذلك كان يوم أحد, لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل, فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام, فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة, تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة, ولهذا قال {ولقد صدقكم الله وعده} أي أول النهار {إذ تحسونهم} أي تقتلونهم {بإذنه} أي بتسليطه إياكم عليهم {حتى إذا فشلتم} وقال ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل الجبن {وتنازعتم في الأمر وعصيتم} كما وقع للرماة {من بعد ما أراكم ما تحبون} وهو الظفر منهم {منكم من يريد الدنيا} وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة {ومنكم من يريد الاَخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم {ولقد عفا عنكم} أي غفر لكم ذلك الصنيع, وذلك, والله أعلم, لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم, قال ابن جريج: قوله {ولقد عفا عنكم} قال: لم يستأصلكم, وكذا قال محمد بن إسحاق: رواهما ابن جرير {والله ذو فضل على المؤمنين} وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عُبيد الله عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد, قال: فأنكرنا ذلك, فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله, إن الله يقول في يوم أحد {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} يقول ابن عباس والحسن: القتل {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاَخرة} الاَية, وإنما عنى بهذا الرماة, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: «احموا ظهورنا, فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا, وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم, وأباحوا عسكر المشركين, أكب الرماة جميعاً دخلوا في العسكر ينهبون, ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا ـ وشبك بين يديه ـ وانتشبوا, فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها, دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فضرب بعضهم بعضاً, والتبسوا وقتل من المسلمين, ناس كثير, وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة, وجال المسلمون جولة نحو الجبل, ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار, إنما كانوا تحت المهراس, وصاح الشيطان: قتل محمد, فلم يشكوا به أنه حق, فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتلفته إذا مشى, قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا, قال: فرقى نحونا وهو يقول: «اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ويقول مرة أخرى: «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا» حتى انتهى إلينا فمكث ساعة, فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل اعلُ هبل ـ مرتين يعني إلهه ـ أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ألا أجيبه ؟ قال «بلى». فلما قال: اعل هبل. قال عمر: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعاد. عنها أو فَعَالَ. فقال أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أبو بكر, وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان, يوم بيوم بدر, الأيام دول, وإن الحرب سجال, قال: فقال: عمر: لا سواء قتلانا في الجنة, وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك, فقد خبنا وخسرنا إذن, فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا. قال: ثم أدركته حمية الجاهلية, فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه, هذا حديث غريب وسياق عجيب, وهو من مرسلات ابن عباس, فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه, وقد أخرجها الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه, عن عثمان بن سعيد, عن سلمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس به, وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به. ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب, عن الشعبي, عن ابن مسعود, قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين, فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا, حتى أنزل الله {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاَخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعصوا ما أمروا به, أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الأنصار, ورجلين من قريش, وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم, فلما رهقوه قال: «رحم الله رجلاً ردهم عنا» قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل, فلما رهقوه أيضاً قال: «رحم الله رجلاً ردهم عنا» فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا» فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله أعلى وأجل», فقالوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان, لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا والكافرون لا مولى لهم» فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر. فيوم علينا ويوم لنا, يوم نساء ويوم نسر, حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سواء: أما قتلانا فأحياء يرزقون, وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» فقال أبو سفيان, لقد كان في القوم مثلة, وإن كان لعن غير ملأ منا, ما أمرت ولا نهيت, ولا أحببت ولا كرهت, ولا ساءني ولا سرني, قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه, وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلت شيئاً» ؟ قالوا: لا. قال: «ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار» قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حمزة فصلى عليه, وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه, فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه, ثم رفع وترك حمزة, حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة, تفرد به أحمد أيضاً. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير, وقال «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا, وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا» فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن, قد بدت خلاخلهن, فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير: عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا, فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً, فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال «لا تجيبوه». فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال «لا تجيبوه». فقال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال: إن هؤلاء قد قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يحزنك, قال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» قالوا: ما نقول قال: «قولوا: الله أعلى وأجل». قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أجيبوه» قالوا: ما نقول ؟ قال «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر, والحرب سجال, وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني, تفرد به البخاري من هذا الوجه, ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية, عن أبي إسحاق, عن البراء بنحوه, وسيأتي بأبسط من هذا وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن سعيد, حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون, فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم, فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم, فبصر حذيفة, فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه, فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل. وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل, ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب, وخلوا ظهورنا للخيل, فأتتنا من أدبارنا, وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل, فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا به. وقال السدي, عن عبد خير قال: قال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاَخرة} وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود, وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة, رواهن ابن مردويه في تفسيره, وقوله تعالى: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار, قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم, فقال: ما يخليكم ؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه, ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقال البخاري: حدثنا حسان بن حسان, حدثنا محمد بن طلحة, حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر, غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله ليرين الله ما أجد, فلقي يوم أحد فهزم الناس, فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به المشركون, فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ, فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد, فمضى فقتل, فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه بشامة, وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم, هذا لفظ البخاري, وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبدان, حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب, قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً, فقال: من هؤلاء القعود ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر, فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني, قال: سل, قال: أنشدك بحرمة هذا البيت, أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم. فكبر, فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه, أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه, وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه» وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان, فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال: «هذه يد عثمان اذهب بها الاَن معك» ثم رواه البخاري من وجه آخر على أبي عوانة, عن عثمان بن عبد الله بن موهب.
وقوله تعالى: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم. وقرأ الحسن وقتادة {إذ تَصْعَدون} أي في الجبل {ولا تلوون على أحد} أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب {والرسول يدعوكم في أخراكم} أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء, وإلى الرجعة والعودة والكرة. قال السدي: لما شدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس «إليّ عباد الله, إليّ عباد الله» فذكر الله صعودهم إلى الجبل, ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم, فقال {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم} وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. وقال عبد الله بن الزبعري: يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها:
يا غراب البين أسمعت فقلإنما تنطق شيئاً قد فعلإن للخير وللشر مدىوكلا ذلك وجه وقبل

إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسلحين حكّت بقباء بركهاواستحر القتل في عبد الأشلثم خفوا عند ذاكم رُقّصاًرقص الحفّان يعلو في الجبلفقتلنا الضعف من أشرافهموعدلنا ميل بدر فاعتدل

الحفان: صغار النعم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا زهير, حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه, قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلاً ـ عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعاً, وقال «إن رأيتمونا تخطفنا الطير, فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم, قال فهزموهم قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن, فقال: أصحاب عبد الله الغنيمة, أي قوم الغنيمة, ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس, فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين, فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم, فلم يبق مع رسول الله إلا اثنا عشر رجلاً, فأصابوا منا سبعين, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين, سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً. قال أبو سفيان: أفي القوم محمد, أفي القوم محمد ؟ ـ ثلاثاً ـ قال. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه, ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم, فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله, إن الذين عددت لأحياء كلهم, وقد بقي لك ما يسوؤك, فقال: يوم بيوم بدر, والحرب سجال. وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها, ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول: اعل هبل اعل هبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه ؟» قالوا: يا رسول الله, وما نقول ؟ قال «قولوا الله أعلى وأجل» قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه ؟» قالوا: يا رسول الله, وما نقول ؟ قال «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً, ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق بأبسط من هذا كما تقدم, والله أعلم ـ وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية, عن أبي الزبير, عن جابر, قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار, وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل, فلقيهم المشركون, فقال «ألا أحد لهؤلاء» فقال طلحة: أنا يا رسول الله, فقال «كما أنت يا طلحة» فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله, فقاتل عنه, وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه, ثم قتل الأنصاري فلحقوه, فقال «ألا رجل لهؤلاء» فقال طلحة, مثل قوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله, فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله, فقاتل عنه وأصحابه يصعدون, ثم قتل فلحقوه, فلم يزل يقول مثل قوله الأول, فيقول طلحة: فأنا يا رسول الله, فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال, فيأذن له, فيقاتل مثل من كان قبله, حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لهؤلاء» فقال طلحة: أنا, فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله, وأصيبت أنامله, فقال حَس, فقال رسول الله «لو قلت باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء» ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون. وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع, عن إسماعيل, عن قيس بن أبي حازم, قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم, يعني يوم أحد ـ وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه, عن أبي عثمان النهدي, قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما. وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية, عن هاشم بن هاشم الزهري, قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نَثَل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال «ارم فداك أبي وأمي», وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد, عن مروان بن معاوية, وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد, عن سعد بن أبي وقاص, أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به ـ وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد, عن أبيه, عن جده, عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم, وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده, يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام ـ وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار, واثنين من قريش, فلما أرهقوه قال «من يردهم عنا وله الجنة ـ أو وهو رفيقي في الجنة» فتقدم رجل من الأنصار, فقاتل حتى قتل, ثم أرهقوه أيضاً, فقال « من يردهم عنا وله الجنة» فتقدم رجل من الأنصار, فقاتل حتى قتل, فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه «ما أنصفنا أصحابنا» رواه مسلم عن هدبة بن خالد, عن حماد بن سلمة به نحو, وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير, قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت رسول الله حلفته, قال «بل أنا أقتله إن شاء الله» فلما كان يوم أحد, أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد, فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله, فاستقبله مصعب بن عمير, أخو بني عبد الدار, يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, فقتل مصعب بن عمير, وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف, من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته, فوقع إلى الأرض عن فرسه, ولم يخرج من طعنته دم, فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور, فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنا أقتل أبياً» ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي, بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين, فمات إلى النار {فسحقاً لأصحاب السعير} وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب بنحوه ـ وذكر محمد بن إسحاق, قال: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب, أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ, فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوه» فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة, فقال بعض القوم ـ ما ذكر لي ـ فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض, ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً ـ وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمرو بن قتادة, عن عبد الله بن كعب بن مالك, عن أبيه, نحو ذلك. قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ, فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل, إذا أنا بنار تأجج فهبتها, فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش, وإذا رجل يقول: لا تسقه, فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا أبي بن خلف ـ وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر, عن همام بن منبه عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ـ واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله, واشتد غضب الله على قوم دَمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال ابن إسحاق: أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشج في وجنته, وكلمت شفته, وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص, فحدثني صالح بن كيسان, عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص إن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضاً في قومه, ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتد غضب الله على من دَمّى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» ـ وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري, عن عثمان الجزري, عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودَمّى وجهه, فقال «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً» فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار ـ وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي الحويرث, عن نافع بن جبير, قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها, كل ذلك يصرف عنه, ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ, دلوني على محمد لا نجوت إن نجا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد, ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان, فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك, قال الواقدي: والذي ثبت عندنا, أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قميئة, والذي دَمّى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله, أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد, قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث, قال: كنت أول من فاء يوم أحد, فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه وأراه قال حمية, فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني, فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه, وهو يخطف المشي خطفاً لا أحفظه, فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح, فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه, وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكما صاحبكما يريد طلحة» وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله, قال: وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه, فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته, فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأزّم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين, ووقعت ثنيّته مع الحلقة, وذهبت لأصنع ما صنع, فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني, قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى, فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة, فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتماً, فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار, فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة, وإذا قد قطعت أصبعه, فأصلحنا من شأنه, ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم فقال أبو عبيدة: أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه, فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبو عبيدة, وذكر تمامه, واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه, وقد ضعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكاً أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له: مجه, فقال: لا والله لا أمجه أبداً, ثم أدبر يقاتل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» فاستشهد. وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم, عن أبيه, عن سهل بن سعد, أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم, فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن, فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم, وقوله تعالى: {فأثابكم غماً بغم} أي فجزاكم غماً على غم, كما تقول العرب: نزلت ببني فلان, ونزلت على بني فلان. وقال ابن جرير: وكذا قوله {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي على جذوع النخل, قال ابن عباس: الغم الأول بسبب الهزيمة, وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم, والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ليس لهم أن يعلونا» وعن عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة, والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة, رواهما ابن مردويه, وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك, وذكر ابن أبي حاتم, عن قتادة نحو ذلك أيضاً وقال السدي: الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح, والثاني يإشراف العدو عليهم, وقال محمد بن إسحاق {فأثابكم غماً بغم} أي كرباً بعد كرب قتل مَنْ قتل من إخوانكم, وعلو عدوكم عليكم, وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم, فكان ذلك متتابعاً عليكم غماً بغم, وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد, والثاني ما أصابهم من القتل والجراح, وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن السدي: الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة, والثاني إشراف العدو عليهم, وقد تقدم هذا القول عن السدي. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال {فأثابكم غماً بغم} فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم, وما أصابكم من القتل والجراح, يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم, وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم. وقوله تعالى: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم {ولا ما أصابكم} من الجراح والقتل, قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي, {والله خبير بما تعملون} سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.)